السبت، 12 مارس 2022

ثرثرات قرية. قصة قصيرة // بقلم الكاتب : ناجي فرحات

 ثرثرات قرية.

قصة قصيرة
أشرقت شمس الصباح الجميلة، على الشارع الممتد من جامع سيدنا أبي بكر، إلى الحمام القديم غربا، هذا الشارع الذي كنت أسميه دائما شارع الحكايات.
إن هذا الشارع وبيوته المترامية على طرفيه يقع في أسفل القرية، ويمتد ملتويا كثعبان أسود يتململ في حر الصيف، تهتز بيوته طربا في الصباح بأغنية تصدح لفيروز من هنا أو عتابا أطلقتها إحدى النساء من هناك.
كان يمكن للجالس على أحدى مصاطبه، رؤية أعلى القرية، والتحركات التي تجري فيها، وكل من سيذهب إلى السهل حيث الكروم ، عليه المرور بهذا الشارع.
تشاء الصدف، والصدف فقط، أن تتميز هذه الحارة القديمة، بأن جميع ساكناتها من الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن لسبب أو آخر.
فأم محمد، مات زوجها مجلوطا لما استولى الآغا في القرية على أرضه، ولم يستطع رغم كل محاولاته والاستعانة بالدرك، من استردادها، ذات صباح صرخت زوجته حين وجدته ميتا.
وأبو احمد مات أثر إصابته بمرض السكري، كان يعب دخان نرجيلته في المقهى لما واتته إحدى نوبات السكري اللعينة ومات على أثرها.
أم صياح، مات زوجها أثر حادث سيارة، ومع أنها المرة الأولى التي يركب فيها السيارة، كان ذاهبا إلى المدينة لشراء عباءة جديدة، وزيارة أحد أقربائه، اصطدمت السيارة التي كان يركبها بجرف صخري نتيجة عطل أصابها، وللمفارقة أنه الوحيد الذي مات في ذلك الحادث، أم صطيف تقول أن زوجها مات مسمما حين أكل حبات من الفطر كانت تنمو في أرضه، وكان الفطر ساما، تأخر في العودة من الحقل، ولما ذهبوا ليستكشفوا الأمر وجدوه تحت الشجرة ميتا والزبد خارجا من فمه.
أما أم حسان، فقد سافر زوجها منذ ثلاثين عاما إلى بلاد الغربة ومن يومها لم تسمع خبرا عنه، وأغلب الظن انه قضى نحبه في تلك البلاد الغريبة.
وأمي، أم مصطفى ، تحدثني فاطمة، لقد مات أبي أثر عطسة سببت له انفجارا دماغيا، ليرحمه الله ويرحم كل أموات المسلمين تردف قائلة.
كل يوم ومنذ الخامسة صباحا تخرج هؤلاء النسوة للجلوس على المصاطب،أمام بيوتهن مجتمعات أو متفرقات،يراقبن الطريق النازل من أعلى القرية، ويتناقلن أخبار المارة فيه، تراهن كسرب من النحل يتنقلن من مجلس لآخر، ينفثن أخبارهن، يتخيلن أمورا، ويتوقعن أمورا أخرى.
أم احمد العارفة بكل أخبار القرية أو إذاعة مونت كارلو كما يسمونها، تكون أول من ينقل الأخبار لباقي النسوة، وكعادتها تنقل الأخبار غير مكتملة، فهي لا تنهي رواية بدأتها، بل تنتقل بين الروايات بخفة ورشاقة وتشدد على أجزاء من الرواية بضرب عكازها بالأرض مثيرة زوبعة صغيرة من الغبار أمامها، كزوبعة أخبارها ورواياتها.
لا ننسى أبو أمون، الأرمل الوحيد في هذه الحارة، فقد زوجته أثناء ولادة أبنته الرابعة مريم، تزوج بعد زوجته مرتين ولم يتفق مع واحدة منهن فطلقهن وأقسم يمينا عظيمة أنه لن يخضع لامرأة.
يتصور أبو أمون نفسه مع سنواته السبعين، أنه ديكا، أو بلبلا مغردا، ولشدة ما يهتم بأناقته المفتعلة كانت النسوة تطلقن عليه لقب " أبو الحمرة " سرا، بسبب احمرار خديه فوق بشرته البيضاء الأنثوية، و جلبابه الناصع البياض أيضا.
أبو أمون وكعادته، يمر في الساعة السادسة صباحا، يمشي مزهوا مختالا أمام أرامل حارته، رافعا أنفه نحو السماء، منتظرا ترحيبهن به، موزعا الابتسامات الصفراء عليهن، رافضا كل الدعوات لاحتساء الشاي أو القهوة.
وما أن يغادر أبو أمون الحارة، حتى تبدأ الأحاديث، والأقاويل، تتردد من باب لآخر ترافقها الضحكات حينا والآهات حينا آخر، نابشة قبور من ماتوا، عابثة بأسرار من هم على قيد الحياة، متدخلة بأدق تفاصيل حياتهم اليومية ، والثرثرات تلك كانت تتناول جميع سكان القرية دون استثناء، كل هذا ولم ترتفع الشمس إلا قليلا في السماء.
ناجي فرحات _ سوريا
قد تكون صورة لـ ‏سماء‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق